فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (18):

{قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}
قوله تعالى: {قالَ اخْرُجْ مِنْها} أي من الجنة. {مَذْؤُماً مَدْحُوراً} {مَذْؤُماً} أي مذموما. والذام: العيب، بتخفيف الميم. قال ابن زيد: مذءوما ومذموما سواء، يقال: ذأمته وذممته وذمته بمعنى واحد. وقرأ الأعمش {مَذْؤُماً}. والمعنى واحد، إلا أنه خفف الهمزة.
وقال مجاهد: المذءوم المنفي. والمعنيان متقاربان. والمدحور: المبعد المطرود، عن مجاهد وغيره. وأصله الدفع. {لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} اللام لام القسم، والجواب {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}.
وقيل: {لَمَنْ تَبِعَكَ} لام توكيد. {لَأَمْلَأَنَّ} لام قسم. والدليل على هذا أنه يجوز في غير القراءة حذف اللام الأولى، ولا يجوز حذف الثانية.
وفي الكلام معنى الشرط والمجازاة، أي من تبعك عذبته. ولو قلت: من تبعك أعذبه لم يجز، إلا أن تريد لأعذبه. وقرأ عاصم من رواية أبي بكر بن عياش {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} بكسر اللام. وأنكره بعض النحويين. قال النحاس: وتقديره- والله أعلم- من أجل من تبعك. كما يقال: أكرمت فلانا لك. وقد يكون المعنى: الدحر لمن تبعك. ومعنى {مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} أي منكم ومن بني آدم، لأن ذكرهم قد جرى إذ قال: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ} خاطب ولد آدم.

.تفسير الآية رقم (19):

{وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)}
قال لآدم بعد إخراج إبليس من موضعه من السماء: اسكن أنت وحواء الجنة. وقد تقدم في البقرة معنى الإسكان، فأغنى عن إعادته. وقد تقدم معنى ولا تقربا هذه الشجرة هناك. والحمد لله.

.تفسير الآية رقم (20):

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20)}
قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ} أي إليهما. قيل: داخل الجنة بإدخال الحية إياه وقيل: من خارج بالسلطنة التي جعلت له. وقد مضى هذا في البقرة. والوسوسة: الصوت الخفي. والوسوسة: حديث النفس يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا بكسر الواو. والوسواس بالفتح: اسم مثل الزلزال. ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي: وسواس. قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ** كما استعان بريح عشرق زجل

والوسواس: اسم الشيطان قال الله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ}. {لِيُبْدِيَ لَهُما} أي ليظهر لهما. واللام لام العاقبة كما قال: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} وقيل: لام كي و{وُورِيَ} أي ستر وغطى عنهما. ويجوز في غير القرآن أورى مثل أقتت ومن سوءاتهما من {عوراتها} وسمي الفرج عورة لأن إظهاره يسوء صاحبه. ودل هذا على قبح كشفها فقيل: إنما بدت سوءاتهما لهما لا لغيرهما كان عليهما نور لا ترى عوراتهما فزال النور.
وقيل: ثوب فتهافت، والله أعلم. {إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ} {أَنْ} في موضع نصب، بمعنى إلا، كراهية أن فحذف المضاف. هذا قول البصرين. والكوفيون يقولون: لئلا تكونا.
وقيل: أي إلا ألا تكونا ملكين تعلمان الخير والشر. وقيل طمع آدم في الخلود لأنه علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة. قال النحاس: وبين الله عز وجل فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن فمنها هذا وهو {إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ}. ومنه {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}. ومنهَ- لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وقال الحسن: فضل الله الملائكة بالصور. والأجنحة والكرامة.
وقال غيره: فضلهم جل وعز بالطاعة وترك المعصية، فلهذا يقع التفضيل في كل شي.
وقال ابن فورك. لا حجة في هذه الآية، لأنه يحتمل أن يريد ملكين في ألا يكون لهما شهوة في طعام. واختيار ابن عباس والزجاج وكثير من العلماء تفضيل المؤمنين على الملائكة، وقد مضى في البقرة.
وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم، غير طائفة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، لأنهم من جملة رسل الله. وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة، والفضل بيد الله. وقرأ ابن عباس {ملكين} بكسر اللام، وهي قراءة يحيى بن أبي كثير والضحاك. وأنكر أبو عمرو بن العلاء كسر اللام وقال: لم يكن قبل آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ملك فيصيرا ملكين. قال النحاس: ويجوز على هذه القراءة إسكان اللام، ولا يجوز على القراءة الأولى لخفة الفتحة. قال ابن عباس: أتاهما الملعون من جهة الملك، ولهذا قال: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى}. وزعم أبو عبيد أن احتجاج يحيى بن أبي كثير بقوله: {وَمُلْكٍ لا يَبْلى} حجة بينة، ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها. قال النحاس: {إلا أن تكون ملكين} قراءة شاذة. وقد أنكر على أبى عبيد هذا الكلام، وجعل من الخطأ الفاحش. وهل يجوز أن يتوهم آدم عليه السلام أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة، وهو غاية الطالبين. وإنما معنى {وَمُلْكٍ لا يَبْلى} المقام في ملك الجنة، والخلود فيه.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)}
قوله تعالى: {وَقاسَمَهُما} أي حلف لهما. يقال: أقسم أقساما، أي حلف. قال الشاعر:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم ** ألذ من السلوى إذا ما نشورها

وجاء فاعلت من واحد. وهو يرد على من قال: إن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين. وقد تقدم في المائدة. {إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ} ليس {لَكُما} داخلا في الصلة. والتقدير: إني ناصح لكما لمن الناصحين، قاله هشام النحوي. وقد تقدم مثله في البقرة. ومعنى الكلام: اتبعاني أرشدكما، ذكره قتادة.

.تفسير الآيات (22- 24):

{فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)}
قوله تعالى: {فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ} أوقعهما في الهلاك. قال ابن عباس: غرهما باليمين. وكان يظن آدم أنه لا يحلف أحد بالله كاذبا، فغررهما بوسوسته وقسمه لهما.
وقال قتادة: حلف بالله لهما حتى خدعهما. وقد يخدع المؤمن بالله. كان بعض العلماء يقول: من خادعنا بالله خدعنا.
وفي الحديث عنه صلى: «المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم». وأنشد نفطويه:
إن الكريم إذا تشاء خدعته ** وترى اللئيم مجربا لا يخدع

{فَدَلَّاهُما} يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها.
وقيل: {فَدَلَّاهُما} أي دللهما، من الدالة وهي الجرأة. أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة. قوله تعالى: {فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ} أي أكلا منها. وقد مضى في البقرة الخلاف في هذه الشجرة، وكيف أكل آدم منها. {بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما} أكلت حواء أولا فلم يصبها شي، فلما أكل آدم حلت العقوبة، لأن النهي ورد عليهما كما تقدم في البقرة. قال ابن عباس: تقلص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا في الأيدي والأرجل.
الثانية: {وَطَفِقا} ويجوز إسكان الفاء. وحكى الأخفش طفق يطفق، مثل ضرب يضرب. يقال: طفق، أي أخذ في الفعل. {يَخْصِفانِ} وقرأ الحسن بكسر الخاء وشد الصاد. والأصل {يختصفان} فأدغم، وكسر الخاء وشد الصاد. والأصل يخصفان فأدغم وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن بريدة ويعقوب بفتح الخاء، ألقيا حركة التاء عليها. ويجوز {يخصفان} بضم الياء، من خصف يخصف. وقرأ الزهري {يخصفان} من أخصف. وكلاهما منقول بالهمزة أو التضعيف والمعنى: يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به، ومنه خصف النعل. والخصاف الذي يرقعها. والمخصف المثقب. قال ابن عباس: هو ورق التين. ويروى أن آدم عليه السلام لما بدت سوأته وظهرت عورته طاف على أشجار الجنة يسل منها ورقة يغطي بها عورته، فزجرته أشجار الجنة حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة. {وَطَفِقا} يعني آدم وحواء {يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} فكافأ الله التين بأن سوى ظاهره وباطنه في الحلاوة والمنفعة وأعطاه ثمرتين في عام واحد مرتين.
الثانية: وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر، ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة، كما قيل لهما: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ}. وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك، لأنه سترة ظاهرة يمكنه التستر بها، كما فعل آدم في الجنة. والله أعلم. قوله تعالى: {وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ. قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} أي قال لهما: ألم أنهكما. قالا رَبَّنا نداء مضاف. والأصل يا ربنا. وقيل. إن في حذف {يا} معنى التعظيم. فاعترفا بالخطيئة وتابا صلى الله عليهما وسلم. وقد مضى في البقرة ومعنى قوله: {قالَ اهْبِطُوا} تقدم أيضا إلى آخر الآية.

.تفسير الآية رقم (25):

{قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)}
الضمائر كلها للأرض. ولم يذكر الواو في {قالَ}، ولو ذكرها لجاز أيضا. وهو كقولك: قال زيد لعمرو كذا قال له كذا.

.تفسير الآية رقم (26):

{يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ} قال كثير من العلماء: هذه الآية دليل على وجوب ستر العورة، لأنه قال: {يُوارِي سَوْآتِكُمْ}.
وقال قوم إنه ليس فيها دليل على ما ذكروه، بل فيها دلالة على الأنعام فقط. قلت: القول الأول أصح. ومن جملة الأنعام ستر العورة، فبين أنه سبحانه وتعالى جعل لذريته ما يسترون به عوراتهم، ودل على الأمر بالستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس. واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال ابن أبي ذئب: هي من الرجل الفرج نفسه، القبل والدبر دون غيرهما. وهو قول داود وأهل الظاهر وابن أبي عبلة والطبري، لقوله تعالى: {لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ}، {بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما}، {لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما}.
وفي البخاري عن أنس: «فأجرى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زقاق خيبر- وفيه- ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وقال مالك: السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته.
وقال أبو حنيفة: الركبة عورة. وهو قول عطاء.
وقال الشافعي: ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح. وحكى أبو حامد الترمذي أن للشافعي في السرة قولين. وحجة مالك قوله عليه السلام لجرهد: «غط فخذك فإن الفخذ عورة». خرجه البخاري تعليقا وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط حتى يخرج من اختلافهم. وحديث جرهد هذا يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة. وروي أن أبا هريرة قبل سرة الحسن بن علي وقال: أقبل منك ما كان رسول الله صلى عليه وسلم يقبل منك. فلو كانت السرة عورة ما قبلها أبو هريرة، ولا مكنه الحسن منها. وأما المرأة الحرة فعورة كلها إلا الوجه والكفين. على هذا أكثر أهل العلم. وقد قال النبي صلى: «من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها». ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام.
وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كشيء من المرأة عورة حتى ظفرها. وروي عن أحمد بن حنبل نحوه. وأما أم الولد فقال الأثرم: سمعته- يعني أحمد بن حنبل- يسأل عن أم الولد كيف تصلي؟ فقال: تغطي رأسها وقدميها، لأنها لا تباع، وتصلي كما تصلي الحرة. وأما الأمة فالعورة منها ما تحت ثديها، ولها أن تبدي رأسها ومعصميها.
وقيل: حكمها حكم الرجل.
وقيل: يكره لها كشف رأسها وصدرها. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على تغطيتهن رءوسهن ويقول: لا تشبهن بالحرائر.
وقال أصبغ: إن انكشف فخذها أعادت الصلاة في الوقت.
وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من الأمة عورة حتى ظفرها. وهذا خارج عن أقوال الفقهاء، لإجماعهم على أن المرأة الحرة لها أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله، تباشر الأرض به. فالأمة أولى، وام الولد أغلظ حالا من الأمة. والصبي الصغير لا حرمة لعورته. فإذا بلغت الجارية إلى حد تأخذها العين وتشتهي سترت عورتها. وحجة أبي بكر بن عبد الرحمن قول تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}. وحديث أم سلمة أنها سئلت: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت: تصلي الدرع والخمار السابغ الذي يغيب ظهور قدميها. وقد روي مرفوعا. والذين أوقفوه على أم سلمة أكثر وأحفظ، منهم مالك وابن إسحاق وغيرهما. قال أبو داود: ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة أنها سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو عمر: عبد الرحمن هذا ضعيف عندهم، إلا أنه قد خرج البخاري بعض حديثه. والإجماع في هذا الباب أقوى من الخبر.
الثانية: قوله تعالى: {أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً} يعني المطر الذي ينبت القطن والكتان، ويقيم البهائم الذي منها الأصواف والأوبار والأشعار، فهو مجاز مثل {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} على ما يأتي.
وقيل: هذا الإنزال إنزال شيء اللباس مع آدم وحواء، ليكون مثالا لغيره.
وقال سعيد بن جبير: {أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ} أي خلقنا لكم، كقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} أي خلق. على ما يأتي.
وقيل: ألهمناكم كيفية صنعته.
الثالثة: قوله تعالى: {وَرِيشاً} قرأ أبو عبد الرحمن والحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي، وأبو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي {ورياشا}. ولم يحكه أبو عبيد إلا عن الحسن، ولم يفسر معناه. وهو جمع ريش. وهو ما كان من المال واللباس.
وقال الفراء: ريش ورياش، كما يقال: لبس ولباس. وريش الطائر ما ستره الله به.
وقيل: هو الخصب ورفاهية العيش. والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. وأنشد سيبويه:
فريشي منكم وهواي معكم ** وإن كانت زياتكم لماما

وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة: وهت له دابة بريشها، أي بكسوتها وما عليها من اللباس.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} بين أن التقوى خير لباس، كما قال:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ** تقلب عيانا وإن كان كاسيا

وخير لباس المرء طاعة ربه ** ولا خير فيمن كان لله عاصيا

وروى قاسم بن مالك عن عوف عن معبد الجهني قال: {لِباسُ التَّقْوى} الحياء.
وقال ابن عباس: {لِباسُ التَّقْوى} هو العمل الصالح. وعنه أيضا: السمت الحسن في الوجه.
وقيل: ما علمه عز وجل وهدى به.
وقيل: {لِباسُ التَّقْوى} لبس الصوف والخشن من الثياب، مما يتواضع به لله تعالى ويتعبد له خير من غيره.
وقال زيد بن علي: {لِباسُ التَّقْوى} الدرع والمغفر، والساعدان، والساقان، يتقى بهما في الحرب.
وقال عروة بن الزبير: هو الخشية لله.
وقيل: هو استشعار تقوى الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه. قلت: وهو الصحيح، وإليه يرجع قول ابن عباس وعروة. وقول زيد بن علي حسن، فإنه خض على الجهاد.
وقال ابن زيد: هو ستر العورة. وهذا فيه تكرار، إذ قال أولا: {قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ}. ومن قال: إنه لبس الخشن من الثياب فإنه أقرب إلى التواضع وترك الرعونات فدعوى، فقد كان الفضلاء من العلماء يلبسون الرفيع من الثياب مع حصول التقوى، على ما يأتي مبينا إن شاء الله تعالى. وقرأ أهل المدينة والكسائي {لباس} بالنصب عطفا على {لِباساً} الأول.
وقيل: انتصب بفعل مضمر، أي وأنزلنا لباس التقوى. والباقون بالرفع على الابتداء. و{ذلِكَ} نعته و{خَيْرٌ} خبر الابتداء. والمعنى: ولباس التقوى المشار إليه، الذي علمتموه، خير لكم من لباس الثياب التي تواري سوآتكم، ومن الرياش الذي أنزلنا إليكم، فألبسوه.
وقيل: ارتفع بإضمار هو، أي وهو لباس التقوى، أي هو ستر العورة. وعليه يخرج قول ابن زيد.
وقيل: المعنى ولباس التقوى هو خير، ف {ذلِكَ} بمعنى هو. والإعراب الأول أحسن ما قيل فيه. وقرأ الأعمش {ولباس التقوى خير} ولم يقرأ {ذلِكَ}. وهو خلاف المصحف. {ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ} أي مما يدل على أن له خالقا. و{ذلِكَ} رفع على الصفة، أو على البدل، أو عطف بيان.